فصل: تفسير الآية رقم (111)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَىمَعْنَى‏:‏ ‏(‏إِقَامَةِ الصَّلَاةِ‏)‏، وَأَنَّهَا أَدَاؤُهَا بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا، وَعَلَى تَأْوِيلِ ‏"‏الصَّلَاةِ‏"‏ وَمَا أَصْلُهَا، وَعَلَى مَعْنَى ‏"‏إِيتَاءِ الزَّكَاةِ‏"‏، وَأَنَّهُ إِعْطَاؤُهَا بِطِيبِ نَفْسٍ عَلَى مَا فُرِضَتْ وَوَجَبَتْ، وَعَلَى مَعْنَى ‏"‏الزَّكَاةِ‏"‏ وَاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا، وَالشَّوَاهِدِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَا فِي ذَلِكَ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏، فَإِنَّهُ-يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِذَلِكَ‏:‏ وَمَهْمَا تَعْمَلُوا مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي أَيَّامِ حَيَاتِكُمْ، فَتُقَدِّمُوهُ قَبْلَ وَفَاتِكُمْ ذُخْرًا لِأَنْفُسِكُمْ فِي مَعَادِكُمْ، تَجِدُوا ثَوَابَهُ عِنْدَ رَبِّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِيكُمْ بِهِ‏.‏

وَ ‏"‏الخَيْرُ‏"‏ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَرْضَاهُ اللَّهُ‏.‏ وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏(‏تَجِدُوهُ‏)‏، وَالْمَعْنَى‏:‏ تَجِدُوا ثَوَابَهُ، كَمَا‏:‏-

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏تَجِدُوهُ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ تَجِدُوا ثَوَابَهُ عِنْدَ اللَّهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ لِاسْتِغْنَاءِ سَامِعِي ذَلِكَ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ عَلَى مَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ لُجَأِ‏:‏

وَسَـبَّحَتِ الْمَدِينَـةُ لَا تَلُمْهَـا *** رَأَتْ قَمَـرًا بِسُـوقِهِمْ نَهَـارَا

وَإِنَّمَا أَرَادَ‏:‏ وَسَبَّحَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ‏.‏

وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَتَقْدِيمِ الْخَيِّرَاتِ لِأَنْفُسِهِمْ، ليَطَّهَّرُوا بِذَلِكَ مِنَ الْخَطَأِ الَّذِي سَلَفَ مِنْهُمْ فِي اسْتِنْصَاحِهِمُ الْيَهُودَ، وَرُكُونِ مَنْ كَانَ رَكَنَ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، وَجَفَاءِ مَنْ كَانَ جَفَا مِنْهُمْ فِي خِطَابِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏رَاعِنَا‏)‏، إِذْ كَانَتْ إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ كَفَّارَةً لِلذُّنُوبِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ تَطْهِيرًا لِلنُّفُوسِ وَالْأَبْدَانِ مِنْ أَدْنَاسِ الْآثَامِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْخَيِّرَاتِ إِدْرَاكُ الْفَوْزِ بِرِضْوَانِ اللَّهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لِلَّذِينِ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُمْ مَهْمَا فَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، فَهُوَ بِهِ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَجْزِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ خَيْرًا، وَبِالْإِسَاءَةِ مِثْلَهَا‏.‏

وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ، فَإِنَّ فِيهِ وَعْدًا وَوَعِيدًا، وَأَمْرًا وَزَجْرًا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْلَمُ الْقَوْمِ أَنَّهُ بَصِيرٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، لِيَجِدُّوا فِي طَاعَتِهِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَذْخُورًا لَهُمْ عِنْدَهُ حَتَّى يُثِيبَهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏، وَلِيَحْذَرُوا مَعْصِيَتَهُ، إِذْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى رَاكِبِهَا، بَعْدَ تَقَدُّمِهِ إِلَيْهِ فِيهَا بِالْوَعِيدِ عَلَيْهَا، وَمَا أَوْعَدَ عَلَيْهِ رَبُّنَا-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَمَا وَعَدَ عَلَيْهِ فَمَأْمُورٌ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏، فَإِنَّهُ ‏"‏مُبْصِرٌ‏"‏ صُرِفَ إِلَى ‏"‏بَصِيرٍ‏"‏، كَمَا صُرِفَ ‏"‏مُبْدِعٌ‏"‏ إِلَى‏"‏بَدِيعٍ‏"‏، وَ‏"‏مُؤْلِمٌ‏"‏ إِلَى‏"‏أَلِيمٍ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا‏}‏، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى‏:‏ ‏{‏لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ‏}‏‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ جَمَعَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الْخَبَرِ مَعَ اخْتِلَافِ مَقَالَةِ الْفَرِيقَيْنِ؛ وَالْيَهُودُ تَدْفَعُ النَّصَارَى عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي ثَوَابِ اللَّهِ نَصِيبٌ، وَالنَّصَارَى تَدْفَعُ الْيَهُودَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ‏.‏ وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ‏:‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ‏:‏ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى‏:‏ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا النَّصَارَى‏.‏ وَلَكِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ لَمَّا كَانَ مَفْهُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ مَعْنَاهُ، جُمِعَ الْفَرِيقَانِ فِي الْخَبَرِ عَنْهُمَا، فَقِيلَ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏}‏ الْآيَةَ- أَيْ قَالَتِ الْيَهُودُ‏:‏ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى‏:‏ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ هُودًا‏}‏، فَإِنَّ فِي ‏"‏الهُودِ‏"‏ قَوْلَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ ‏"‏هَائِدٍ‏"‏، كَمَا جَاءَ ‏"‏عُوطٌ‏"‏ جَمْعَ ‏"‏عَائِطٍ‏"‏، وَ‏"‏عُوذٌ‏"‏ جَمْعَ ‏"‏عَائِذٍ‏"‏، وَ‏"‏حُولٌ‏"‏ جَمْعَ ‏"‏حَائِلٍ‏"‏، فَيَكُونُ جَمْعًا لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَ ‏"‏الهَائِدُ‏"‏ التَّائِبُ الرَّاجِعُ إِلَى الْحَقِّ‏.‏

وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا عَنِ الْجَمِيعِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏رَجُلٌ صَوْمٌ وَقَوْمٌ صَوْمٌ‏"‏، وَ‏"‏رَجُلٌ فِطْرٌ وَقَوْمٌ فِطْرٌ، وَنِسْوَةٌ فِطْرٌ‏"‏‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا‏}‏، إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ، إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودًا، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ الْيَاءَ الزَّائِدَةَ، وَرَجَعَ إِلَى الْفِعْلِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ‏:‏ ‏(‏إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا‏)‏‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى‏"‏ النَّصَارَى‏"‏، وَلِمَ سُمَّيَتْ بِذَلِكَ، وَجُمِعَتْ كَذَلِكَ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ‏}‏، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ ‏{‏لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏}‏، أَنَّهُ أَمَانِيُّ مِنْهُمْ يَتَمَنَّوْنَهَا عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَلَا يَقِينِ عِلْمٍ بِصِحَّةِ مَا يَدَّعُونَ، وَلَكِنْ بِادِّعَاءِ الْأَبَاطِيلِ وَأَمَانِيِّ النُّفُوسِ الْكَاذِبَةِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ‏}‏، أَمَانِيُّ يَتَمَنَّوْنَهَا عَلَى اللَّهِ كَاذِبَةٌ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَمَانِيُّ تُمَنُّوا عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُعَاءِ الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ ‏{‏لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏}‏- إِلَى أَمْرٍ عَدْلٍ بَيْنَ جَمِيعِ الْفِرَقِ‏:‏ مُسَلِّمِهَا وَيَهُودِهَا وَنَصَارَاهَا، وَهُوَ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي ادَّعَوْا‏:‏ مِنْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، قُلْ لِلزَّاعِمِينَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْبَشَرِ‏:‏ ‏{‏هَاتُوا بِرِهَانِكُمْ‏}‏، عَلَى مَا تَزْعُمُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَنُسَلِّمَ لَكُمْ دَعْوَاكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فِي دَعْوَاكُمْ- مِنْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى- مُحِقِّينَ‏.‏

وَالْبُرْهَانُ‏:‏ هُوَ الْبَيَانُ وَالْحُجَّةُ وَالْبَيِّنَةُ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ‏}‏، هَاتُوا بَيِّنَتَكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏هَاتُوا بُرْهَانكُمْ‏}‏، هَاتُوا حُجَّتَكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ حُجَّتُكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ‏}‏، أَيْ‏:‏ حُجَّتُكُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الْكَلَامُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ ظَاهِرَ دُعَاءِ الْقَائِلِينَ‏:‏ ‏{‏لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏}‏- إِلَى إِحْضَارِ حُجَّةٍ عَلَى دَعْوَاهُمْ مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى تَكْذِيبٍ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ وَقِيلِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى إِحْضَارِ بِرِهَانٍ عَلَى دَعْوَاهُمْ تِلْكَ أَبَدًا‏.‏ وَقَدْ أَبَانَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏، عَنْ أَنَّ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ الْكَلَامِ، بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ مَا ذَكَرَ اللَّهِ عَنْهُمْ‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ‏}‏ فَإِنَّهُ‏:‏ أَحْضِرُوا وَأْتُوْا بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ‏}‏، أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ الزَّاعِمُونَ ‏{‏لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏}‏، وَلَكِنْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، فَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُهَا وَيَنْعَمُ فِيهَا، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ هُوَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ الْآيَةَ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ‏(‏بَلَى‏)‏ فِيمَا مَضَى قَبْلُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِـ ‏"‏إِسْلَامِ الْوَجْهِ‏"‏‏:‏ التَّذَلُّلَ لِطَاعَتِهِ وَالْإِذْعَانَ لِأَمْرِهِ، وَأَصِلُ ‏"‏الْإِسْلَامِ‏"‏‏:‏ الِاسْتِسْلَامُ؛ لِأَنَّهُ ‏"‏مِنَ اسْتَسْلَمْتُ لِأَمْرِهِ‏"‏، وَهُوَ الْخُضُوعُ لِأَمْرِهِ‏.‏ وَإِنَّمَا سُمِّيَ ‏"‏الْمُسْلِمُ‏"‏ مُسْلِمًا بِخُضُوعِ جَوَارِحِهِ لِطَاعَةِ رَبِّهِ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ أَخْلَصَ لِلَّهِ‏.‏ وَكَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنُ نُفَيْلٍ‏:‏

وَأَسْـلَمْتٌ وَجْـهِي لِمَـنْ أَسْـلَمَتْ *** لَـهُ الْمُـزْنُ تَحْـمِلُ عَذْبًـا زُلَالَا

يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ اسْتَسْلَمْتُ لِطَاعَةِ مَنِ اسْتَسْلَمَ لِطَاعَتِهِ الْمُزْنُ وَانْقَادَتْ لَهُ‏.‏

وَخَصَّ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِالْخَبَرِ عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏، بِإِسْلَامِ وَجْهِهِ لَهُ دُونَ سَائِرِ جَوَارِحِهِ؛ لِأَنَّ أَكْرَمَ أَعْضَاءِ ابْنِ آدَمَ وَجَوَارِحِهِ وَجْهُهُ، وَهُوَ أَعْظَمُهَا عَلَيْهِ حُرْمَةً وَحَقًّا، فَإِذَا خَضَعَ لِشَيْءٍ وَجْهُهُ الَّذِي هُوَ أَكْرَمُ أَجْزَاءِ جَسَدِهِ عَلَيْهِ فَغَيْرُهُ مِنْ أَجْزَاءِ جَسَدِهِ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ أَخْضَعَ لَهُ؛ وَلِذَلِكَ تَذْكُرُ الْعَرَبُ فِي مَنْطِقِهَا الْخَبَرَ عَنِ الشَّيْءِ، فَتُضِيفُهُ إِلَى ‏"‏وَجْهِهِ‏"‏ وَهِيَ تَعْنِي بِذَلِكَ نَفْسَ الشَّيْءِ وَعَيْنَهُ، كَقَوْلِ الْأَعْشَى‏:‏

أَؤُوِّلُ الْحُـكْمَ عَـلَى وَجْهِـهِ *** لَيْسَ قَضَـائِي بِـالْهَوَى الْجَـائِرِ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏عَلَى وَجْهِهِ‏)‏‏:‏ عَلَى مَا هُوَ بِهِ مِنْ صِحَّتِهِ وَصَوَابِهِ، وَكَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ‏:‏

فَطَـاوَعْتُ هَمِّـي وَانْجَـلَى وَجْهُ بَازِلٍ مِـنَ الْأَمْـرِ، لَـمْ يَتْرُكْ خِلَاجًا بُزُولُهَا

يُرِيدُ‏:‏ وَانْجَلَى الْبَازِلُ مِنَ الْأَمْرِ فَتَبَيَّنَ- وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ حُسْنُ كُلِّ شَيْءٍ وَقُبْحُهُ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ فِي وَصْفِهَا مِنَ الشَّيْءِ وَجْهَهُ بِمَا تَصِفُهُ بِهِ، إِبَانَةٌ عَنْ عَيْنِ الشَّيْءِ وَنَفْسِهِ‏.‏ فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏، إِنَّمَا يَعْنِي‏:‏ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ بَدَنُهُ، فَخَضَعَ لَهُ بِالطَّاعَةِ جَسَدُهُ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي إِسْلَامِهِ لَهُ جَسَدَهُ، فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ ‏"‏الْوَجْهِ‏"‏ مِنْ ذِكْرِ‏"‏جَسَدِهِ‏"‏ لِدِلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أُرِيدَ بِهِ بِذِكْرِ ‏"‏الْوَجْهِ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ‏:‏ فِي حَالِ إِحْسَانِهِ‏.‏ وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ بَلَى مَنْ أَخْلَصَ طَاعَتَهُ لِلَّهِ وَعِبَادَتَهُ لَهُ، مُحْسِنًا فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنَى بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ‏}‏، فَلِلْمُسْلِمِ وَجْهَهُ لِلَّهِ مُحْسِنًا، جَزَاؤُهُ وَثَوَابُهُ عَلَى إِسْلَامِهِ وَطَاعَتِهِ رَبَّهُ، عِنْدَ اللَّهِ فِي مَعَادِهِ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏، عَلَى الْمُسْلِمِينَ وُجُوهَهُمْ لِلَّهِ وَهُمْ مُحْسِنُونَ، الْمُخَلِّصِينَ لَهُ الدِّينَ فِي الْآخِرَةِ- مِنْ عِقَابِهِ وَعَذَابِ جَحِيمِهِ، وَمَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَنْ يُمْنَعُوا مَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ نَعِيمِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ‏.‏

وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏، وَقَدْ قَالَ قَبْلُ‏:‏ ‏(‏فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ‏)‏، لِأَنَّ ‏"‏مَنْ‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏، فِي لَفْظِ وَاحِدٍ وَمَعْنَى جَمِيعٍ، فَالتَّوْحِيدُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَهُ أَجْرُهُ‏}‏ لِلَّفْظِ، وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏، لِلْمَعْنَى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نـَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ تَنَازَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏.‏‏.‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَا جَمِيعًا- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، لَمَّا قَدِمَ أَهْلُ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَتْهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ، فَتُنَازِعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ‏:‏ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَكَفَرَ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَبِالْإِنْجِيلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى‏:‏ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَجَحَدَ نُبُوَّةَ مُوسَى وَكَفَرَ بِالتَّوْرَاةِ‏.‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ‏}‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْآيَةِ، فَإِنْ قَالَتِ الْيَهُودُ‏:‏ لَيْسَتِ النَّصَارَى فِي دِينِهَا عَلَى صَوَابٍ‏!‏، وَقَالَتِ النَّصَارَى‏:‏ لَيْسَتِ الْيَهُودُ فِي دِينِهَا عَلَى صَوَابٍ‏!‏ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقِيْلِهِمْ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِعْلَامًا، مِنْهُ لَهُمْ بِتَضْيِيعِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ حُكْمَ الْكِتَابِ الَّذِي يَظْهَرُ الْإِقْرَارُ بِصِحَّتِهِ وَبِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَجُحُودُهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ فُرُوضِهِ، لِأَنَّ الْإِنْجِيلَ الَّذِي تَدِينُ بِصِحَّتِهِ وَحَقِّيَّتِهِ النَّصَارَى، يُحَقِّقُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيهَا مِنَ الْفَرَائِضِ، وَأَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي تَدِينُ بِصِحَّتِهَا وَحَقِّيَّتِهَا الْيَهُودُ تَحَقُّقُ نُبُوَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْفَرَائِضِ‏.‏

ثُمَّ قَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ‏}‏، مَعَ تِلَاوَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كِتَابَهُ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَى كَذِبِهِ فِي قِيلِهِ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ قَالَ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ فِيمَا قَالُوهُ مُبْطِلُونَ؛ وَأَتَوْا مَا أَتَوْا مِنْ كُفْرِهِمْ بِمَا كَفَرُوا بِهِ عَلَى مَعْرِفَةٍ مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِيهِ مُلْحِدُونَ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ أَوَكَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بَعْدَ أَنْ بَعَثَ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَى شَيْءٍ، فَيَكُونَ الْفَرِيقُ الْقَائِلُ مِنْهُمْ ذَلِكَ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ مُبْطِلًا فِي قِيلِهِ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ قَدْ رَوَيْنَا الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَبْلُ، مِنْ أَنَّ إِنْكَارَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، إِنَّمَا كَانَ إِنْكَارًا لِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي يَنْتَحِلُ التَّصْدِيقَ بِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ، لَا دَفْعًا مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ فِي الْحَالِّ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ فِيهَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ، بِسَبَبِ جُحُودِهِ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ إِنْكَارَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ عَلَى شَيْءٍ بَعْدَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ كَانَ جَاحِدًا نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَالِ الَّتِي أَنْـزَلَ اللَّهُ فِيهَا هَذِهِ الْآيَةَ‏؟‏ وَلَكِنْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ‏:‏ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهَا مُنْذُ دَانَتْ دِينَهَا، وَقَالَتِ النَّصَارَى‏:‏ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مُنْذُ دَانَتْ دِينَهَا‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ آنِفًا، فَكَذَّبَ اللَّهُ الْفَرِيقَيْنِ فِي قِيلِهِمَا مَا قَالَا‏.‏

كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ بَلَى‏!‏ قَدْ كَانَتْ أَوَائِلُ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُمْ ابْتَدَعُوا وَتَفَرَّقُوا، وَقَالَتِ النَّصَارَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ‏}‏، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ ابْتَدَعُوا وَتَفَرَّقُوا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ قَدْ كَانَتْ أَوَائِلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ كِتَابَ اللَّهِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَهُمَا شَاهِدَانِ عَلَى فَرِيقَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْكَفْرِ، وَخِلَافِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ فِيهِ‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ- وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ- قَالَا جَمِيعًا، حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ‏}‏، أَيْ‏:‏ كُلٌّ يَتْلُو فِي كِتَابِهِ تَصْدِيقَ مَا كَفَرَ بِهِ‏:‏ أَيْ يَكْفُرُ الْيَهُودُ بِعِيسَى وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى بِالتَّصْدِيقِ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي الْإِنْجِيلِ مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى تَصْدِيقُ مُوسَى، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ وَكُلٌّ يَكْفُرُ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، ‏{‏قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ قَوْلِ الْيَهُودِ قَبْلَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ قَوْلِ الْيَهُودِ قَبْلَهُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ قُلْتُ لِعَطَاءٍ‏:‏ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أُمَمٌ كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقَبْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهمْ‏:‏ عَنَى بِذَلِكَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتِابٍ فَنُسِبُوا إِلَى الْجَهْلِ، وَنُفِيَ عَنْهُمْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْعِلْمُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ‏}‏، فَهُمُ الْعَرَبُ، قَالُوا‏:‏ لَيْسَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ وَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ بِمَا كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِهِ عَالِمَيْنِ- أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَهْلِهِمْ نَظِيرَ مَا قَالَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بَعْضُهَا لِبَعْضٍ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ‏}‏‏.‏ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا أَمَةً كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى‏.‏ وَلَا أُمَّةَ أَوْلَى أَنْ يُقَالَ هِيَ الَّتِي عُنِيَتْ بِذَلِكَ مِنْ أُخْرَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دِلَالَةٌ عَلَى أَيٍّ مِنْ أَيٍّ، وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ‏.‏

وَإِنَّمَا قَصَدَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ‏}‏، إِعْلَامَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَدْ أَتَوْا مِنْ قِيلَ الْبَاطِلِ، وَافْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، وَجُحُودِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ‏!‏ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ مُبْطِلُونَ، وَبِجُحُودِهِمْ مَا يَجْحَدُونَ مِنْ مِلَّتِهِمْ خَارِجُونَ، وَعَلَى اللَّهِ مُفْتَرُونَ، مِثْلَ الَّذِي قَالَهُ أَهْلُ الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَكَتَبَهُ وَرُسُله، الَّذِينَ لَمْ يَبْعَثُ اللَّهُ لَهُمْ رَسُولًا وَلَا أَوْحَى إِلَيْهِمْ كِتَابًا‏.‏

وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَبِّئُ عَنْ أَنَّ مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِنَهْيِ اللَّهِ عَنْهَا، فَمُصِيبَتُهُ فِي دِينِهِ أَعْظَمُ مِنْ مُصِيبَةِ مَنْ أَتَى ذَلِكَ جَاهِلًا بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَظَّمَ تَوْبِيخَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِمَا وَبَّخَهُمْ بِهِ فِي قِيلِهِمْ مَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ‏}‏، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ قَالُوا مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ فَاللَّهُ يَقْضِي فَيَفَصِلُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ، الْقَائِلِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ- يَوْمَ قِيَامِ الْخَلْقِ لِرَبِّهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ- فَيَتَبَيَّنُ الْمُحِقُّ مِنْهُمْ مِنَ الْمُبْطِل، بِإِثَابَةِ الْمُحِقِّ مَا وَعَدَ أَهْلَ طَاعَتِهِ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وَمُجَازَاتِهِ الْمُبْطِلَ مِنْهُمْ بِمَا أَوْعَدَ أَهْلَ الْكُفْرِ بِهِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ مِنْ أَدْيَانِهِمْ وَمِلَلِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏الْقِيَامَةُ ‏"‏ فَهِيَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏قُمْتُ قِيَامًا وَقِيَامَةً‏)‏، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏عُدْتُ فُلَانًا عِيَادَةً‏)‏ و‏"‏صُنْتُ هَذَا الْأَمْرَ صِيَانَةً‏"‏‏.‏

وَإِنَّمَا عَنَى‏"‏بِالْقِيَامَةِ‏"‏ قِيَامَ الْخَلْقِ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّهِمْ، فَمَعْنَى ‏"‏يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏"‏‏:‏ يَوْمُ قِيَامِ الْخَلَائِقِ مِنْ قُبُورِهِمْ لِمَحْشَرِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ قَدْ دَلََّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى أَنَّتَأْوِيلَ الظُّلْمِ‏:‏ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ‏.‏ وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَمَنْ أَظْلَمُ‏)‏‏:‏ وَأَيُّ امْرِئٍ أَشَدُّ تَعَدِّيًا وَجَرَاءَةً عَلَى اللَّهِ وَخِلَافًا لِأَمْرِهِ، مِنْ امْرِئٍ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُعْبُدَ اللَّهُ فِيهَا‏؟‏

وَ ‏"‏المَسَاجِدُ‏"‏ جَمْعُ مَسْجِدٍ‏:‏ وَهُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ عُبِدَ اللَّهُ فِيهِ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى السُّجُودِ فِيمَا مَضَى، فَمَعْنَى ‏"‏المَسْجِدِ‏"‏‏:‏ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْجَدُ لِلَّهِ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يُجْلَسُ فِيهِ‏:‏ ‏(‏الْمَجْلِسُ‏)‏، وَلِلْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْـزَلُ فِيهِ‏:‏ ‏"‏مَنْـزِلٌ‏"‏، ثُمَّ يُجْمَعُ‏:‏ ‏(‏مَنَازِلَ وَمَجَالِسَ‏)‏ نَظِيرَ مَسْجِدٍ وَمَسَاجِدَ‏.‏ وَقَدْ حُكِيَ سَمَاعًا مِنْ بَعْضِ الْعَرَبِ‏:‏ ‏(‏مَسَاجَدُ‏)‏ فِي وَاحِدِ الْمَسَاجِدِ، وَذَلِكَ كَالْخَطَأ مِنْ قَائِلِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏، فَإِنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ وَمَنْ أَظْلِمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، فَتَكُونُ ‏"‏أَنْ‏"‏ حِينَئِذٍ نَصْبًا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بِفَقْدِ الْخَافِضِ، وَتَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِهَا‏.‏

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ فِي مَسَاجِدِهِ، فَتَكُونُ ‏"‏أَنْ‏"‏ حِينَئِذٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، تَكْرِيرًا عَلَى مَوْضِعِ الْمَسَاجِدِ وَرَدًّا عَلَيْهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏}‏، فَإِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ وَمِنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَمِمَّنْ سَعَى فِي خَرَابِ مَسَاجِدِ اللَّهِ‏.‏ فَـ ‏"‏سَعَى‏"‏ إذًا عَطْفٌ عَلَى ‏"‏مَنَعَ‏"‏‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَمَنِ الَّذِي عُنِيَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏}‏‏؟‏ وَأَيُّ الْمَسَاجِدِ هِيَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنْ أَهَّلَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ هُمُ النَّصَارَى، وَالْمَسْجِدُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏، أَنَّهُمُ النَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏}‏، النَّصَارَى كَانُوا يَطْرَحُونَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْأَذَى، وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ بُخْتَنَصَّرُ وَجُنْدُهُ وَمَنْ أَعَانَهُمْ مِنَ النَّصَارَى، وَالْمَسْجِدُ‏:‏ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏-

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏، الْآيَةَ، أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ النَّصَارَى، حَمَلَهُمْ بُغْضُ الْيَهُودِ عَلَى أَنْ أَعَانُوا بُخْتَنَصَّرَ الْبَابِلِيَّ الْمَجُوسِيَّ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ بُخْتَنَصَّرُ وَأَصْحَابُهُ، خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ الرُّومُ، كَانُوا ظَاهَرُوا بُخْتَنَصَّرَ عَلَى خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى خَرَّبَهُ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُطْرَحَ فِيهِ الْجِيَفُ، وَإِنَّمَا أَعَانَهُ الرُّومُ عَلَى خَرَابِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلَى عَنَى اللَّهُ-عَزَّ وَجَلَّ- بِهَذِهِ الْآيَةِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، إِذْ مَنَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏}‏، قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، حِينَ حَالُوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَبَيِّنَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ حَتَّى نَحَرَ هَدْيَهُ بِذِي طُوًى وَهَادَنَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ‏:‏ مَا كَانَ أَحَدٌ يُرَدُّ عَنْ هَذَا الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ فِيهِ فَمَا يَصُدُّهُ، وَقَالُوا‏:‏ لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا مَنْ قَتَلَ آبَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَفِينَا بَاقٍ‏!‏

وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏)‏ قَالَ‏:‏ إِذْ قَطَعُوا مَنْ يَعَمُرُهَا بِذَكَرِهِ، وَيَأْتِيهَا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ عَنَى اللَّهُ-عَزَّ وَجَلَّ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏ النَّصَارَى‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ سَعَوْا فِي خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَعَانُوا بُخْتَنَّصَّرَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنَعُوا مُؤْمِنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ بَعْدَ مُنْصَرَفِ بُخْتَنَّصَرَ عَنْهُمْ إِلَى بِلَادِهِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قِيَامُ الْحُجَّةِ بِأَنْ لَا قَوْلَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَحَدُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَّرْنَاهَا، وَأَنْ لَا مَسْجِدَ عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏)‏، إِلَّا أَحَدَ الْمَسْجِدَيْنِ، إِمَّا مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِمَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ‏.‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لَمْ يَسْعَوْا قَطُّ فِي تَخْرِيبِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ مَنَعُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالسَّعْيِ فِي خَرَابِ مَسَاجِدِهِ، غَيْرُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِعِمَارَتِهَا؛ إِذْ كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ بَنَوْا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَبِعِمَارَتِهِ كَانَ افْتِخَارُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَفْعَالِهِمْ فِيهِ، كَانَ مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَرْضَاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ‏.‏

وَأُخْرَى، أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏، مَضَتْ بِالْخَبَرِ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَذَمِّ أَفْعَالِهِمْ، وَالَّتِي بَعْدَهَا نَبَّهَتْ بِذَمِّ النَّصَارَى وَالْخَبَرِ عَنْ افْتِرَائِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ، وَلَمْ يَجْرِ لِقُرَيْشٍ وَلَا لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ ذِكْرٌ، وَلَا لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَبْلَهَا، فَيُوَجَّهَ الْخَبَرُ- بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏- إِلَيْهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏.‏

وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْآيَةِ أَنْ يُوَجَّهَ تَأْوِيلُهَا إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا كَانَ نَظِيرَ قِصَّةِ الْآيَةِ قَبْلَهَا وَالْآيَةِ بَعْدَهَا، إِذْ كَانَ خَبَرُهَا لِخَبَرِهِمَا نَظِيرًا وَشَكْلًا إِلَّا أَنْ تَقُومَ حُجَّةٌ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنْ اتَّفَقَتْ قَصَصُهَا فَاشْتَبَهَتْ‏.‏

فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَلْزَمْهُمْ قَطُّ فَرْضُ الصَّلَاةِ فِي ‏[‏الْمَسْجِدِ الْمُقَدَّسِ، فَمُنِعُوا مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَيُلْجِئُونَ‏]‏ تَوْجِيهَ قَوْلِهِ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏ إِلَى أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ- فَقَدْ أَخْطَأَ فِيمَا ظَنَّ مِنْ ذَلِكَ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ-جَلَّ ذِكْرُهُ- إِنَّمَا ذَكَرَ ظُلْمَ مَنْ مَنَعَ مَنْ كَانَ فَرْضُهُ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ مُؤْمِنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِيَّاهُمْ قَصَدَ بِالْخَبَرِ عَنْهُمْ بِالظُّلْمِ وَالسَّعْيِ فِي خَرَابِ الْمَسْجِدِ‏.‏ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَلَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏، أَنَّ كُلَّ مَانِعٍ مُصَلِّيًا فِي مَسْجِدٍ لِلَّهِ، فَرْضًا كَانَتْ صَلَاتُهُ فِيهِ أَوْ تَطَوُّعًا-، وَكُلُّ سَاعٍ فِي إِخْرَابِهِ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ‏{‏أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، أَنَّهُ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي سَعَوْا فِي تَخْرِيبِهَا، وَمَنَعُوا عِبَادَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا، مَا دَامُوا عَلَى مُنَاصَبَةِ الْحَرْبِ، إِلَّا عَلَى خَوْفٍ وَوَجِلٍ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى دُخُولِهُمُوهَا، كَالَّذِي‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ‏}‏، وَهُمُ الْيَوْمَ كَذَلِكَ، لَا يُوجَدُ نَصْرَانِيٌّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَّا نُهِكَ ضَرْبًا، وَأُبْلِغَ إِلَيْهِ فِي الْعُقُوبَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ‏}‏، وَهُمُ النَّصَارَى، فَلَا يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ إِلَّا مُسَارَقَةً، إِنَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ عُوقِبُوا‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ‏}‏، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ رُومِيٌّ يَدْخُلُهَا الْيَوْمَ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُهُ، أَوْ قَدْ أُخِيفَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَهُوَ يُؤَدِّيهَا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ نَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ‏)‏ قَالَ‏:‏ فَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنَّا مُنِعْنَا أَنْ نَنْـزِلَ‏!‏‏.‏

وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ‏}‏، فَأُخْرِجَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْجَمِيعِ، وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ ‏{‏مَنْ مَنَعَ مَسَاجِدِ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏؛ لِأَنَّ ‏"‏مَنْ‏"‏ فِي مَعْنَى الْجَمِيع، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ وَاحِدًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ أَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏(‏لَهُمْ‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏.‏ أَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِـ ‏"‏الْخِزْيِ‏"‏‏:‏ الْعَارَ وَالشَّرَّ وَالذِّلَّةِ إِمَّا الْقَتْلُ وَالسِّبَاءُ، وَإِمَّا الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ‏}‏، أَمَّا خِزْيُهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ إِذَا قَامَ الْمَهْدِيُّ وَفُتِحَتِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ قَتَلَهُمْ، فَذَلِكَ الْخِزْيُ، وَأَمَّا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ، فَإِنَّهُ عَذَابُ جَهَنَّمَ الَّذِي لَا يُخَفَّفُ عَنْ أَهْلِهِ، وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فِيهَا فَيَمُوتُوا‏.‏ وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ‏:‏ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا الذِّلَّةُ وَالْهَوَانُ وَالْقَتْلُ وَالسَّبْيُ- عَلَى مَنْعِهِمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعْيِهِمْ فِي خَرَابِهَا، وَلَهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَسَعْيِهِمْ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ‏}‏، لِلَّهِ مِلْكُهُمَا وَتَدْبِيُرُهُمَا، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏لِفُلَانٍ هَذِهِ الدَّارُ‏)‏، يَعْنِي بِهَا‏:‏ أَنَّهَا لَهُ، مِلْكًا‏.‏ فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ‏}‏، يَعْنِي أَنَّهُمَا لَهُ، مِلْكًا وَخَلْقًا‏.‏

وَ ‏"‏المَشْرِقُ‏"‏ هُوَ مَوْضِعُ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَهُوَ مَوْضِعُ طُلُوعِهَا، كَمَا يُقَالُ لِمَوْضِعِ طُلُوعِهَا مِنْهُ‏:‏ ‏(‏مَطْلِعٌ‏)‏ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَكَمَا بَيَّنَّا فِي مَعْنَى ‏"‏المَسَاجِد‏"‏ آنِفًا‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ أَوْمَا كَانَ لِلَّهِ إِلَّا مَشْرِقٌ وَاحِدٌ وَمَغْرِبٌ وَاحِدٌ، حَتَّى قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ‏}‏‏؟‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ غَيْرُ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ الَّذِي تَشْرُقُ مِنْهُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ، وَالْمَغْرِبُ الَّذِي تَغْرُبُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ‏.‏ فَتَأْوِيلُهُ إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ‏:‏ وَلِلَّهِ مَا بَيْنَ قُطْرِيِ الْمَشْرِقِ، وَمَا بَيْنَ قُطْرِيِ الْمَغْرِبِ، إِذْ كَانَ شُرُوقُ الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهُ لَا تَعُودُ لِشُرُوقِهَا مِنْهُ إِلَى الْحَوْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ غُرُوبُهَا كُلَّ يَوْمٍ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ أَوَلَيْسَ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْتَ، فَلِلَّهِ كُلُّ مَا دُونَهُ‏؟‏ الْخَلْقُ خَلْقُهُ‏!‏ قِيلَ‏:‏ بَلَى‏!‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَكَيْفَ خَصَّ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ بِالْخَبَرِ عَنْهَا أَنَّهَا لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، دُونَ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ غَيْرَهَا‏؟‏

قِيلَ‏:‏ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَصَّ اللَّهُ ذِكْرَ ذَلِكَ بِمَا خَصَّهُ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏ وَنَحْنُ مُبَيِّنُو الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ بَعْدَ ذِكْرِنَا أَقْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ خَصَّ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- ذَلِكَ بِالْخَبَرِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تُوَجِّهُ فِي صَلَاتِهَا وُجُوهَهَا قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُدَّةً، ثُمَّ حُوِّلُوا إِلَى الْكَعْبَةِ‏.‏ فَاسْتَنْكَرَتِ الْيَهُودُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا‏:‏ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا‏؟‏ فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُمُ‏:‏ الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ كُلُّهَا لِي، أَصْرِفُ وُجُوهَ عِبَادِي كَيْفَ أَشَاءُ مِنْهَا، فَحَيْثُمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، كَانَ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا الْيَهُودَ، أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ‏.‏ فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَ يَدْعُو وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 144‏]‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 1150‏]‏، فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 142‏]‏، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ‏}‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ أَنْـزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ التَّوَجُّهَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏.‏ وَإِنَّمَا أَنْـزَلَهَا عَلَيْهِ مُعَلِّمًا نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ وَأَصْحَابَهُ أَنَّ لَهُمُ التَّوَجُّهَ بِوُجُوهِهِمْ لِلصَّلَاةِ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ نَوَاحِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُوَجِّهُونَ وُجُوهَهُمْ وَجْهًا مِنْ ذَلِكَ وَنَاحِيَةً، إِلَّا كَانَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ وَتِلْكَ النَّاحِيَةِ، لِأَنَّ لَهُ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ، وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏{‏وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ‏:‏ 7‏]‏ قَالُوا‏:‏ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوَجُّهِ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 1150‏]‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هِيَ الْقِبْلَةُ، ثُمَّ نَسَخَتْهَا الْقِبْلَةُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَ مَا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ وُجِّهَ بَعْدَ ذَلِكَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ‏.‏ فَنَسَخَهَا اللَّهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى‏:‏ ‏{‏فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا‏}‏ إِلَى ‏{‏وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 144‏]‏، قَالَ‏:‏ فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ أَمْرِ الْقِبْلَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، سَمِعْتُهُ- يَعْنِي زَيْدًا- يَقُولُ‏:‏ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ هَؤُلَاءِ قَوْمُ يَهُودَ يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لَوْ أَنَا اسْتَقْبَلْنَاهُ‏!‏ فَاسْتَقْبَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَبَلَغَهُ أَنَّ يَهُودَ تَقُولُ‏:‏ وَاللَّهُ مَا دَرَى مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَيْنَ قِبْلَتُهُمْ حَتَّى هَدَيْنَاهُمْ‏!‏ فَكَرِهَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَفَعَ وَجْهَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 144‏]‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ نـَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْنًا مِنَ اللَّهِ-عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ أَنْيُصَلِّيَ التَّطَوُّعَ حَيْثُ تَوَجَّهَ وَجْهُهُ مِنْ شَرْقٍ أَوْ غَرْبٍ، فِي مَسِيرِهِ فِي سَفَرِهِ، وَفِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ، وَفِي شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَالْتِقَاءِ الزُّحُوفِ فِي الْفَرَائِضِ‏.‏ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ حَيْثُ وَجَّهَ وَجْهَهُ فَهُوَ هُنَالِكَ، بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَيَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَيَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تُوَلُّوْا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ فَضِيلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّمَا نـَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تُوَلُّوْا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏ أَنْ تُصَلِّيَ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ فِي السَّفَرِ تَطَوُّعًا، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا يُومِئُ بِرَأْسِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ نـَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ عُمِّيَتْ عَلَيْهِمُ الْقِبْلَةُ فَلَمْ يَعْرِفُوا شَطْرَهَا، فَصَلَّوْا عَلَى أَنْحَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ‏:‏ لِي الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ، فَأَنَّى وَلَّيْتُمْ وُجُوهَكُمْ فَهُنَالِكَ وَجْهِي، وَهُوَ قِبْلَتُكُمْ- مُعْلِمَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ صَلَاتَهُمْ مَاضِيَةٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ السَّمَّانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ، فَنَـزَلْنَا مَنْـزِلًا فَجَعْلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْأَحْجَارَ فَيَعْمَلُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، إِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَقُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْنَا لَيْلَتنَا هَذِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ قَالَ، قُلْتُ لِلنَّخْعِيِّ‏:‏ إِنِّي كُنْتُ اسْتَيْقَظْتُ- أَوْ قَالَ أَيْقَظْتُ، شَكَّ الطَّبَرَيُّ- فَكَانَ فِي السَّمَاءِ سَحَابٌ، فَصَلَّيْتُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ مَضَتْ صَلَاتُكَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَشْعَثَ السِّمَانِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي سَفَرٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ فَصَلَّيْنَا، فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ، ثُمَّ أَصْبَحْنَا فَذَكَرْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ نـَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سَبَبِ النَّجَاشِيِّ، لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَازَعُوا فِي أَمْرِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ كُلُّهَا لِي، فَمَنْ وَجَّهَ وَجْهَهُ نَحْوَ شَيْءٍ مِنْهَا يُرِيدُنِي بِهِ وَيَبْتَغِي بِهِ طَاعَتِي، وَجَدَنِي هُنَالِكَ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يُوَجِّهُ إِلَى بَعْضِ وُجُوهِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَجْهَهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِلَاتِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، «عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوْا عَلَيْهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ نُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ‏!‏ قَالَ فَنَـزَلَتْ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 199‏]‏، قَالَ‏:‏ قَتَادَةُ، فَقَالُوا‏:‏ إِنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا خَصَّ الْخَبَرَ عَنِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمَا لَهُ مِلْكًا، وَإِنْ كَانَ لَا شَيْءَ إِلَّا وَهُوَ لَهُ مَلِكٌ- إِعْلَامًا مِنْهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ لَهُ مَلِكَهُمَا وَمِلْكَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْخَلْقِ، وَأَنْ عَلَى جَمِيعِهِمْ إِذْ كَانَ لَهُ مِلْكُهُمْ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَّرَهُمْ وَنَهَاهُمْ، وَفِيمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ، وَالتَّوَجُّهِ نَحْوَ الْوَجْهِ الَّذِي وُجِّهُوا إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ مِنْ حُكْمِ الْمَمَالِيكِ طَاعَةُ مَالِكِهِمْ؛ فَأَخْرَجَ الْخَبَرَ عَنِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ بَيْنَهُمَا مِنَ الْخَلْقِ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَدْ بَيَّنْتُ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِالْخَبَرِ عَنْ سَبَبِ الشَّيْءِ مِنْ ذِكْرِهِ وَالْخَبَرِ عَنْهُ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ‏}‏، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَمَعْنَى الْآيَةِ إذًا‏:‏ وَلِلَّهِ مِلْكُ الْخَلْقِ الَّذِي بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَتَعَبَّدُهُمْ بِمَا شَاءَ، وَيَحْكُمُ فِيهِمْ مَا يُرِيدُ، عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ، فَوَلُّوْا وُجُوهَكُمْ- أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- نَحْوَ وَجْهِي، فَإِنَّكُمْ أَيْنَمَا تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ فَهُنَالِكَ وَجْهِي‏.‏

فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ نَاسِخَةٌ أَمْ مَنْسُوخَةٌ، أَمْ لَا هِيَ نَاسِخَةٌ وَلَا مَنْسُوخَةٌ‏؟‏ فَالصَّوَابُ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهَا جَاءَتْ مَجِيءَ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ الْخَاصُّ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏، مُحْتَمِلٌ‏:‏ أَيْنَمَا تُوَلُّوا- فِي حَالِ سَيْرِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ، فِي صَلَاتِكُمْ التَّطَوُّعَ، وَفِي حَالِ مُسَايَفَتِكُمْ عَدُّوَكُمْ، فِي تَطَوُّعِكُمْ وَمَكْتُوبَتِكُمْ، فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالنَّخْعِيُّ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا عَنْهُ آنِفًا‏.‏

وَمُحْتَمِلٌ‏:‏ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا- مِنْ أَرْضِ اللَّهِ فَتَكُونُوا بِهَا- فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ الَّتِي تُوَجِّهُونَ وُجُوهَكُمْ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ مُمْكِنٌ لَكُمُ التَّوَجُّهُ إِلَيْهَا مِنْهَا‏.‏ كَمَا قَالَ‏:‏ أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، وَالنَّضِرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ قِبْلَةُ اللَّهِ، فَأَيْنَمَا كُنْتَ مِنْ شَرْقٍ أَوْ غَرْبٍ فَاسْتَقْبِلْهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَلَكُمْ قِبْلَةٌ تَسْتَقْبِلُونَهَا قَالَ، الْكَعْبَةُ‏.‏

وَمُحْتَمِلٌ‏:‏ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ فِي دُعَائِكُمْ فَهُنَالِكَ وَجْهِي أَسْتَجِيبُ لَكُمْ دُعَاءَكُمْ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ لَمَّا نـَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ غَافِرٍ‏:‏ 60‏]‏، قَالُوا‏:‏ إِلَى أَيْنَ‏؟‏ فنـَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏‏.‏

فَإِذْ كَانَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏، مُحْتَمِلًا مَا ذَكَّرْنَا مِنَ الْأَوْجُهِ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا‏.‏

لِأَنَّ النَّاسِخَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَنْسُوخٍ، وَلَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا بِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏، مَعْنِيٌّ بِهِ‏:‏ فَأَيْنَمَا تُوَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ فَثَمَّ قَبِلَتُكُمْ، وَلَا أَنَّهَا نـَزَلَتْ بَعْدَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَمْرًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ بِهَا أَنْ يَتَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ هِيَ نَاسِخَةٌ الصَّلَاةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِذْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةِ التَّابِعِينَ، مَنْ يَنْكَرُ أَنْ تَكُونَ نـَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَا خَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ بِأَنَّهَا نـَزَلَتْ فِيهِ، وَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي أَمْرِهَا مَوْجُودًا عَلَى مَا وَصَفْتُ‏.‏

وَلَا هِيَ- إِذْ لَمْ تَكُنْ نَاسِخَةً لِمَا وَصَفْنَا- قَامَتْ حُجَّتُهَا بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، إِذْ كَانَتْ مُحْتَمِلَةً مَا وَصَفْنَا‏:‏ بِأَنْ تَكُونَ جَاءَتْ بِعُمُومٍ، وَمَعْنَاهَا‏:‏ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ- إِنْ كَانَ عُنِيَ بِهَا التَّوَجُّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي كُلِّ حَالٍ إِنْ كَانَ عُنِيَ بِهَا الدُّعَاءُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي كِتَابِنَا‏:‏ ‏(‏كِتَابِ الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ‏)‏، عَلَى أَنْ لَا نَاسِخَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ وَأَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا نَفَى حُكْمًا ثَابِتًا، وَأُلْزِمَ الْعِبَادُ فَرْضَهُ، غَيْرَ مُحْتَمِلٍ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ غَيْرَ ذَلِكَ‏.‏ فَأَمَّا إِذَا مَا احْتَمَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ، أَوِ الْمُجْمَلِ، أَوِ الْمُفَسَّرِ، فَمِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ بِمَعْزِلٍ، بِمَا أَغْنَى عَنْ تَكْرِيرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا مَنْسُوخَ إِلَّا الْمَنْفِيُّ الَّذِي كَانَ قَدْ ثَبَتَ حُكْمُهُ وَفَرْضُهُ‏.‏

وَلَمْ يَصِحَّ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏، بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، فَيُقَالُ فِيهِ‏:‏ هُوَ نَاسِخٌ أَوْ مَنْسُوخٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا‏}‏، فَإِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ حَيْثُمَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏تُوَلُّوا‏}‏ فَإِنَّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِهِ أَنْ يَكُونَ‏:‏ تُوَلُّونَ نَحْوَهُ وَإِلَيْهِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ‏:‏ ‏"‏وَلَّيْتُهُ وَجْهِي وَوَلَّيْتُهُ إِلَيْهِ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ قَابَلَتْهُ وَوَاجَهَتْهُ‏.‏ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُهُ، وَشُذُوذُ مَنْ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى‏:‏ تُوَلُّونَ عَنْهُ فَتَسْتَدْبِرُونَهُ، فَالَّذِي تَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ وَجْهُ اللَّهِ، بِمَعْنَى قِبْلَةُ اللَّهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَثَمَّ‏}‏ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى‏:‏ هُنَالِكَ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ تَأْوِيلُ ذَلِكَ‏:‏ فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ وَجْهَهُ الَّذِي وَجَّهَهُمْ إِلَيْهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ النَّضِرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ قِبْلَةُ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَلَكُمْ قِبْلَةٌ تَسْتَقْبِلُونَهَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏، فَثَمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏، فَثَمَّ تُدْرِكُونَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ رِضَا اللَّهِ الَّذِي لَهُ الْوَجْهُ الْكَرِيمُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عَنَى بِـ ‏"‏الْوَجْهِ‏"‏ ذَا الْوَجْهِ‏.‏ وَقَالَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ‏:‏ وَجْهُ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَمَا هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا‏؟‏

قِيلَ‏:‏ هِيَ لَهَا مُوَاصِلَةٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَمَنْ أَظْلِمُ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ مَنَعُوا عِبَادَ اللَّهِ مَسَاجِدَهُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَسَعَوْا فِي خَرَابِهَا، وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَيْنَمَا تُوَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ فَاذْكُرُوهُ، فَإِنَّ وَجْهَهُ هُنَالِكَ، يَسَعُكُمْ فَضْلُهُ وَأَرْضُهُ وَبِلَادُهُ، وَيَعْلَمُ مَا تَعْمَلُونَ، وَلَا يَمْنَعْكُمْ تَخْرِيبُ مَنْ خَرَّبَ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَنْعُهُمْ مَنْ مَنَعُوا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِيهِ- أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ حَيْثُ كُنْتُمْ مِنْ أَرْضِ اللَّهِ، تَبْتَغُونَ بِهِ وَجْهَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاسِعٌ‏}‏ يَسَعُ خَلْقَهُ كُلَّهُمْ بِالْكِفَايَةِ وَالْإِفْضَالِ وَالْجُودِ وَالتَّدْبِيرِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَفْعَالِهِمْ لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ، بَلْ هُوَ بِجَمِيعِهَا عَلِيمٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا‏}‏، الَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، ‏{‏وَقَالُوا‏}‏‏:‏ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏}‏‏.‏

وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ‏:‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَهُمُ النَّصَارَى الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُه-ُ مُكَذِّبًا قِيلَهُمْ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ وَمُنْتَفِيًا مِمَّا نَحَلُوهُ وَأَضَافُوا إِلَيْهِ بِكَذِبِهِمْ وَفِرْيَتِهِمْ‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَهُ‏)‏، يَعْنِي بِهَا‏:‏ تَنْـزِيهًا وَتَبْرِيئًا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَعُلُوًّا وَارْتِفَاعًا عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَ اللَّهِ‏)‏، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

ثُمَّ أَخْبَرَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكًا وَخَلْقًا، وَمَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَكَيْفَ يَكُونُ الْمَسِيحُ لِلَّهِ وَلَدًا، وَهُوَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ، إِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ، وَإِمَّا فِي الْأَرْضِ، وَلِلَّهِ مِلْكُ مَا فِيهِمَا‏.‏ وَلَوْ كَانَ الْمَسِيحُ ابْنًا كَمَا زَعَمْتُمْ، لَمْ يَكُنْ كَسَائِرِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ خَلْقِهِ وَعَبِيدِهِ، فِي ظُهُورِ آيَاتِ الصَّنْعَةِ فِيهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ مُطِيعُونَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏، مُطِيعُونَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ مُطِيعُونَ قَالَ، طَاعَةُ الْكَافِرِ فِي سُجُودِ ظَلِّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِمِثْلِهِ، إِلَّا أَنَّهُ زَادَ‏:‏ بِسُجُودِ ظَلِّهِ وَهُوَ كَارِهٌ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ كُلٌّ لَهُ مُطِيعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الطَّاعَةُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏قَانِتُونَ‏}‏، مُطِيعُونَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ كُلٌّ لَهُ مُقِرُّونَ بِالْعُبُودِيَّةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، عَنْ يَزِيدٍ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏، كُلٌّ مُقِرٌّ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ كُلٌّ لَهُ قَائِمٌ يَوَِْ الْقِيَامَةِ‏.‏

ولِـ ‏"‏الْقُنُوتِ‏"‏ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَانٍ‏:‏ أَحَدُّهَا الطَّاعَةُ، وَالْآخَرُ الْقِيَامُ، وَالثَّالِثُ الْكَفُّ عَنِ الْكَلَامِ وَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ‏.‏

وَأَوْلَى مَعَانِي ‏"‏الْقُنُوتِ‏"‏فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏، الطَّاعَةُ وَالْإِقْرَارُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعُبُودِيَّةِ، بِشَهَادَةِ أَجْسَامِهِمْ بِمَا فِيهَا مِنْ آثَارِ الصَّنْعَةِ، وَالدِّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بَارِئُهَا وَخَالِقُهَا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَكَذَبَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏، مِلْكًا وَخَلْقًا، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهَا مُقِرَّةٌ بِدِلَالَتِهَا عَلَى رَبِّهَا وَخَالِقهَا، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَارِئُهَا وَصَانِعُهَا‏.‏ وَإِنْ جَحَدَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، فَأَلْسِنَتُهُمْ مُذْعِنَةٌ لَهُ بِالطَّاعَةِ، بِشَهَادَتِهَا لَهُ بِآثَارِ الصَّنْعَةِ الَّتِي فِيهَا بِذَلِكَ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ أَحَدُهمْ، فَأَنَّى يَكُونُ لِلَّهِ وَلَدًا وَهَذِهِ صِفَتُهُ‏؟‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ قَصُرَتْ مَعْرِفَتُهُ عَنْ تَوْجِيهِ الْكَلَامِ وِجْهَتَهُ، أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏، خَاصَّةً لِأَهْلِ الطَّاعَةِ وَلَيْسَتْ بِعَامَّةٍ، وَغَيْرُ جَائِزٍ ادِّعَاءُ خُصُوصٍ فِي آيَةٍ عَامٍّ ظَاهِرُهَا، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، لِمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا‏:‏ ‏(‏كِتَابِ الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ‏)‏‏.‏

وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ-جَلَّ وَعَزَّ- عَنْ أَنَّ الْمَسِيحَ- الَّذِي زَعَمَتِ النَّصَارَى أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ- مُكَذِّبُهُمْ هُوَ وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهَا، إِمَّا بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا بِالدِّلَالَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِهِمْ، بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِقْرَارِهِمْ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، عَقِيبَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا‏}‏، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏، مُبْدِعُهَا‏.‏

وَإِنَّمَا هُوَ ‏"‏مُفْعِلٌ‏"‏ صُرِفَ إِلَى‏"‏فَعِيلٍ‏"‏ كَمَا صُرِفَ ‏"‏الْمُؤْلِمُ‏"‏ إِلَى‏"‏أَلِيمٍ‏"‏، وَ ‏"‏المُسْمِعُ‏"‏ إِلَى‏"‏سَمِيعٍ‏"‏‏.‏ وَمَعْنَى ‏"‏المُبْدِعِ‏"‏‏:‏ الْمُنْشِئُ وَالْمُحَدِّثُ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَى إِنْشَاءِ مِثْلِهِ وَإِحْدَاثِهِ أَحَدٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمُبْتَدِعُ فِي الدِّينِ ‏"‏مُبْتَدِعًا‏"‏، لِإِحْدَاثِهِ فِيهِ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ‏.‏ وَكَذَلِكَ كَلُّ مُحَدِّثٍ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ فِيهِ مُتَقَدِّمٌ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهِ مُبْتَدِعًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ، فِي مَدْحِ هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ‏:‏

يُـرْعِي إِلَـى قَـوْلِ سَادَاتِ الرِّجَالِ إِذَا *** أَبْـدَوْا لَـهُ الْحَزْمَ، أَوْ مَا شَاءَهُ ابْتَدَعَا

أَيْ يُحْدِثُ مَا شَاءَ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ‏:‏

فَأَيُّهَـا الغَاشِـي *** القِـذَافَ الأتْيَعَـا

إِنْ كُـنْتَ لِلَّـهِ *** التَّقِـيَّ الْأَطْوَعَـا

فَلَيْسَ وَجْهُ *** الْحَقِّ أَنْ تَبَدَّعَا

يَعْنِي‏:‏ أَنْ تُحْدِثَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ‏.‏

فَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَهُوَ مَالِكُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، تَشْهَدُ لَهُ جَمِيعًا بِدِلَالَتِهَا عَلَيْهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَتُقِرُّ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَهُوَ بَارِئُهَا وَخَالِقُهَا، وَمُوجِدُهَا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، وَلَا مِثَالٍ احْتَذَاهَا عَلَيْهِ‏؟‏

وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عِبَادَهُ، أَنَّ مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ‏:‏ الْمَسِيحُ، الَّذِي أَضَافُوا إِلَى اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بُنُوَّتَهُ، وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَعَلَى غَيْرِ مِثَالٍ، هُوَ الَّذِي ابْتَدَعَ الْمَسِيحَ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ بِقُدْرَتِهِ، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ ابْتَدَعَ خَلْقَهَا، وَلَمْ يُشْرِكْهُ فِي خَلْقِهَا أَحَدٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ ابْتَدَعَهَا فَخَلَقَهَا، وَلَمْ يُخْلَقْ قَبْلَهَا شَيْءٌ فَيَتَمَثَّلَ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَضَى أَمْرًا‏}‏، وَإِذَا أَحْكَمَ أَمَرًا وَحَتَّمَهُ‏.‏

وَأَصْلُ كُلِّ ‏"‏قَضَاءٍ أَمْرُ‏"‏ الْإِحْكَامِ، وَالْفَرَاغِ مِنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْحَاكِمِ بَيْنَ النَّاسِ‏:‏ ‏(‏الْقَاضِي‏)‏ بَيْنَهُمْ، لِفَصْلِهِ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَقَطْعِهِ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ وَفَرَاغِهِ مِنْهُ بِهِ‏.‏ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمَيِّتِ‏:‏ ‏(‏قَدْ قَضَى‏)‏، يُرَادُ بِهِ قَدْ فَرَغَ مِنَ الدُّنْيَا، وَفَصَلَ مِنْهَا‏.‏ وَمِنْهُ قِيلَ‏:‏ ‏(‏مَا يَنْقَضِي عَجَبِي مِنْ فُلَانٍ‏)‏، يُرَادُ‏:‏ مَا يَنْقَطِعُ‏.‏ وَمِنْهُ قِيلَ‏:‏ ‏(‏تَقَضَّى النَّهَارُ‏)‏، إِذَا انْصَرَمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْإِسْرَاءِ‏:‏ 23‏]‏ أَيْ‏:‏ فَصَلَ الْحُكْمَ فِيهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، بِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْإِسْرَاءِ‏:‏ 4‏]‏، أَيْ أَعْلَمْنَاهُمْ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَنَاهُمْ بِهِ، فَفَرَغْنَا إِلَيْهِمْ مِنْهُ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ‏:‏

وَعَلَيْهِمَـا مَسْـرُودَتَانِ، قَضَاهُمَـا *** دَاوُدُ أَوْ صَنَـعَ السَّـوَابِغَ تُبَّـعُ

وَيُرْوَى‏:‏

وَتَعَاوُرَا مَسْرُودَتَيْنِ قَضَاهُمَا

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏قَضَاهُمَا‏)‏، أَحْكَمَهُمَا‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ فِي مَدْحِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏

قَضَيْـتَ أُمُـورًا ثُـمَّ غَـادَرْتَ بَعْدَهَا *** بَـوائِقَ فِـي أَكْمَامِهَـا لَـمْ تَفَتَّـقِ

وَيُرْوَى‏:‏ ‏(‏بَوَائِجَ‏)‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ وَإِذَا أَحْكَمَ أَمْرًا فَحَتَّمَهُ، فَإِنَّمَا يَقُولُ لِذَلِكَ الْأَمْرِ ‏"‏كُنْ‏"‏، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ وَأَرَادَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَمَامَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏‏؟‏ وَفِي أَيِّ حَالٍ يَقُولُ لِلْأَمْرِ الَّذِي يَقْضِيهِ‏:‏ ‏(‏كُنْ‏)‏‏؟‏ أَفِي حَالِ عَدَمِهِ، وَتِلْكَ حَالٌ لَا يَجُوزُ فِيهَا أَمْرُهُ، إِذْ كَانَ مُحَالًا أَنْ يَأْمُرَ إِلَّا الْمَأْمُورَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَأْمُورُ اسْتَحَالَ الْأَمْرُ،؛ وَكَمَا مُحَالٌ الْأَمْرُ مِنْ غَيْرِ آمِرٍ، فَكَذَلِكَ مُحَالٌ الْأَمْرُ مَنْ آمِرٍ إِلَّا لِمَأْمُورٍ، أَمْ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ فِي حَالِ وُجُودِهِ‏؟‏ وَتِلْكَ حَالٌ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِيهَا بِالْحُدُوثِ، لِأَنَّهُ حَادِثٌ مَوْجُودٌ، وَلَا يُقَالُ لِلْمَوْجُودِ‏:‏ ‏(‏كُنْ مَوْجُودًا‏)‏ إِلَّا بِغَيْرِ مَعْنَى الْأَمْرِ بِحُدُوثِ عَيْنِهِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ قَدْ تَنَازَعَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَنَحْنُ مُخْبِرُونَ بِمَا قَالُوا فِيهِ، وَالْعِلَلِ الَّتِي اعْتَلَّ بِهَا كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ‏:‏

قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَنْ أَمْرِهِ الْمَحْتُومِ- عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ لِمَنْ قَضَى عَلَيْهِ قَضَاءً مَنْ خَلْقِهِ الْمَوْجُودِينَ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَهُ بِأَمْرٍ نَفَذَ فِيهِ قَضَاؤُهُ، وَمَضَى فِيهِ أَمْرُهُ، نَظِيرُ أَمْرِهِ مَنْ أُمِرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يَكُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ، وَهُمْ مَوْجُودُونَ فِي حَالِ أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، وَحَتْمِ قَضَائِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا قَضَى فِيهِمْ، وَكَالَّذِي خَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ وَقَضَائِهِ فِيمَنْ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ خَلْقِهِ فِي حَالِ أَمْرِهِ الْمَحْتُومِ عَلَيْهِ‏.‏

فَوَجَّهَ قَائِلُو هَذَا الْقَوْلِ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏، إِلَى الْخُصُوصِ دُونَ الْعُمُومِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلِ الْآيَةُ عَامٌّ ظَاهِرُهَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِيلَهَا إِلَى بَاطِنٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا‏.‏ وَقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ قَبْلَ كَوْنِهِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَتِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ وَهِيَ كَائِنَةٌ لِعِلْمِهِ بِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا، نَظَائِرَ الَّتِي هِيَ مَوْجُودَةٌ، فَجَازَ أَنْ يَقُولَ لَهَا‏:‏ ‏(‏كَوْنِي‏)‏، وَيَأْمُرَهَا بِالْخُرُوجِ مِنْ حَالِ الْعَدَمِ إِلَى حَالِ الْوُجُودِ، لِتَصَوُّرِ جَمِيعِهَا لَهُ، وَلِعِلْمِهِ بِهَا فِي حَالِ الْعَدَمِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا ظَاهِرَ عُمُومٍ، فَتَأْوِيلُهَا الْخُصُوصُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا لِمَأْمُورٍ، عَلَى مَا وَصَفْتُ قَبْلُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْآيَةُ تَأْوِيلُهَا‏:‏ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا مِنْ إِحْيَاءِ مَيِّتٍ، أَوْ إِمَاتَةِ حَيٍّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يَقُولُ لِحَيٍّ‏:‏ ‏(‏كُنْ مَيِّتًا، أَوْ لِمَيِّتٍ‏:‏ كُنْ حَيًّا‏)‏، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرٌ عَنْ جَمِيعِ مَا يُنْشِئُهُ وَيُكَوِّنُهُ، أَنَّهُ إِذَا قَضَاهُ وَخَلَقَهُ وَأَنْشَأَهُ، كَانَ وَوُجِدَ- وَلَا قَوْلَ هُنَالِكَ عِنْدُ قَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ، إِلَّا وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَحُدُوثُ الْمَقْضِيِّ-‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ إِنَّمَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏، نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏قَالَ فُلَانٌ بِرَأْسِهِ‏)‏ و‏"‏قَالَ بِيَدِهِ‏"‏، إِذَا حَرَّكَ رَأَسَهُ، أَوْ أَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، وَكَمَا قَالَ أَبُو النَّجْمِ‏:‏

وَقَـالَتِ الْأَنْسَاعُ للبَطْـنِ الْحَـقِ الْحَـقِ *** قِدُمًـا فَـآضَتْ كَـالفَنِيقِ الْمُحْـنِقِ

وَلَا قَوْلَ هُنَالِكَ، وَإِنَّمَا عَنَى أَنَّ الظَّهْرَ قَدْ لَحِقَ بِالْبَطْنِ‏.‏ وَكَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ حُمَمَةَ الدَّوْسِيُّ‏:‏

فَـأَصْبَحْتُ مِثْـلَ النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ إِذَا رَامَ تَطْيَـارًا يُقَـالُ لَـهُ‏:‏ قَـعِ

وَلَا قَوْلَ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ‏:‏ إِذَا رَامَ طَيَرَانًا وَقَعَ، وَكَمَا قَالَ الْآخَر‏:‏

امْتَـلَأَ الْحَـوْضُ وَقَـالَ‏:‏ قَطْنِـي *** سَـلَّا رُوَيْـدًا، قَـدْ مَـلَأْتُ بَطْنِـي

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏، أَنْ يُقَالَ‏:‏ هُوَ عَامٌ فِي كُلِّ مَا قَضَاهُ اللَّهُ وَبَرَأَهُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ ظَاهِرُ عُمُومٍ، وَغَيْرُ جَائِزَةٍ إِحَالَةُ الظَّاهِرِ إِلَى الْبَاطِنِ مِنَ التَّأْوِيلِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ لَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا‏:‏ ‏(‏كِتَابِ الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ‏)‏‏.‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَأَمْرُ اللَّهِ-جَلَّ وَعَزَّ- لِشَيْءٍ إِذَا أَرَادَ تَكْوِينَهُ مَوْجُودًا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏كُنْ‏)‏ فِي حَالِ إِرَادَتِهِ إِيَّاهُ مُكَوَّنًا، لَا يَتَقَدَّمُ وُجُودُ الَّذِي أَرَادَ إِيجَادَهُ وَتَكْوِينَهُ، إِرَادَتَهُ إِيَّاهُ، وَلَا أَمْرَهُ بِالْكَوْنِ وَالْوُجُودِ، وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَأْمُورًا بِالْوُجُودِ مُرَادًا كَذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا إِلَّا وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُجُودِ مُرَادٌ كَذَلِكَ‏!‏ وَنَظِيرُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الرُّومِ‏:‏ 25‏]‏ بِأَنَّ خُرُوجَ الْقَوْمِ مِنْ قُبُورِهِمْ لَا يَتَقَدَّمُ دُعَاءَ اللَّهِ، وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ‏.‏

وَيُسْأَلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ خَاصٌّ فِي التَّأْوِيلِ اعْتِلَالًا بِأَنَّ أَمْرَ غَيْرِ الْمَوْجُودِ غَيْرُ جَائِزٍ، عَنْ دَعْوَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، أَمْ بَعْدَهُ‏؟‏ أَمْ هِيَ فِي خَاصٍّ مِنَ الْخَلْقِ‏؟‏ فَلَنْ يَقُولَ فِي ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمُ فِي الْآخَرِ مِثْلُهُ‏.‏

وَيَسْأَلُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏، نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏قَالَ فُلَانٌ بِرَأْسِهِ أَوْ بِيَدِهِ‏)‏ إِذَا حَرَّكَهُ وَأَوْمَأَ، وَنَظِيرُ قَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

تَقُـولُ إِذَا دَرَأْتُ لَهَـا وَضِينِـي *** أَهَـذَا دِينُـهُ أَبَـدًا وَدِينِـي

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ-‏:‏ فَإِنَّهُمْ لَا صَوَابَ اللُّغَةِ أَصَابُوا، وَلَا كِتَابَ اللَّهِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَى صِحَّتِهِ الْأَدِلَّةُ اتَّبَعُوا- فَيُقَالُ لِقَائِلِي ذَلِكَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا قَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏كُنْ‏)‏، أَفَتُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا ذَلِكَ‏؟‏ فَإِنْ أَنْكَرُوهُ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، وَخَرَجُوا مِنَ الْمِلَّةِ‏.‏

وَإِنْ قَالُوا‏:‏ بَلْ نُقِرُّ بِهِ، وَلَكِنَّا نَـزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏قَالَ الْحَائِطُ فَمَالَ‏)‏ وَلَا قَوْلَ هُنَالِكَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ مَيْلِ الْحَائِطِ‏.‏

قِيلَ لَهُمْ‏:‏ أَفَتُجِيزُونَ لِلْمُخْبِرِ عَنِ الْحَائِطِ بِالْمَيْلِ أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنَّمَا قَوْلُ الْحَائِطِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَمِيلَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا فَيَمِيلُ‏؟‏

فَإِنْ أَجَازُوا ذَلِكَ خَرَجُوا مِنْ مَعْرُوفِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَخَالَفُوا مَنْطِقَهَا وَمَا يُعْرَفُ فِي لِسَانِهَا‏.‏

وَإِنْ قَالُوا‏:‏ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ‏.‏

قِيلَ لَهُمْ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّ قَوْلَهُ لِلشَّيْءِ إِذَا أَرَادَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَأَعْلَمَ عِبَادَهُ قَوْلَهُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الشَّيْءُ وَوَصَفَهُ وَوَكَّدَهُ‏.‏ وَذَلِكَ عِنْدَكُمْ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعِبَارَةِ عَمَّا لَا كَلَامَ لَهُ وَلَا بَيَانَ فِي مِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏قَالَ الْحَائِطُ فَمَالَ‏)‏، فَكَيْفَ لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ فَرْقَ مَا بَيْنَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏، وَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏قَالَ الْحَائِطُ فَمَالَ‏؟‏‏)‏ وَلِلْبَيَانِ عَنْ فَسَادِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا نَأْتِي فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏، هُوَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ حَالَ أَمْرِهِ الشَّيْءَ بِالْوُجُودِ حَالُ وُجُودِ الْمَأْمُورِ بِالْوُجُودِ، فَبَيِّنٌ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَيَكُونُ‏)‏ الرَّفْعُ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ ‏(‏يَقُولُ‏)‏ لِأَنَّ ‏"‏الْقَوْلَ‏"‏ وَ ‏"‏الكَوْنَ‏"‏ حَالُهُمَا وَاحِدٌ‏.‏ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏تَابَ فُلَانٌ فَاهْتَدَى‏)‏، وَ‏(‏اهْتَدَى فُلَانٌ فَتَابَ‏)‏، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَائِبًا إِلَّا وَهُوَ مُهْتَدٍ، وَلَا مُهْتَدِيًا إِلَّا وَهُوَ تَائِبٌ‏.‏ فَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ آمِرًا شَيْئًا بِالْوُجُودِ إِلَّا وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلَا مَوْجُودًا إِلَّا وَهُوَ آمِرُهُ بِالْوُجُودِ‏.‏

وَلِذَلِكَ اسْتَجَازَ مَنِ اسْتَجَازَ نَصْبَ ‏"‏فَيَكُونَ‏"‏ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 40‏]‏، بِالْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْنَا عَلَى مَعْنَى‏:‏ أَنْ نَقُولَ فَيَكُونَ‏.‏

وَأَمَّا رَفَعُ مَنْ رَفَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ الْخَبَرَ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ‏}‏‏.‏ إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ اللَّهَ إِذَا حَتَّمَ قَضَاءَهُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ الْمَحْتُومُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا، ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ‏:‏ فَيَكُونُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ الْحَجِّ‏:‏ 5‏]‏ وَكَمَا قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ‏:‏

يُعَـالِجُ عَـاقِرًا أَعْيَـتْ عَلَيْـهِ *** ليُلْقِحَهَـا فيَنْتِجُهَـا حُـوَارَا

يُرِيدُ‏:‏ فَإِذَا هُوَ يَنْتَجِهَا حُوَارًا‏.‏

فَمَعْنَى الْآيَةِ إذًا‏:‏ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ‏!‏ بَلْ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، كُلُّ ذَلِكَ مُقِرٌّ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ بِدِلَالَتِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَهُوَ الَّذِي ابْتَدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، كَالَّذِي ابْتَدَعَ الْمَسِيحَ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ بِمَقْدِرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، الَّذِي لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ بِهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ‏!‏ بَلْ إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ إِذَا قَضَاهُ فَأَرَادَ تَكْوِينَهُ‏:‏ ‏(‏كُنْ‏)‏، فَيَكُونُ مَوْجُودًا كَمَا أَرَادَهُ وَشَاءَهُ‏.‏ فَكَذَلِكَ كَانَ ابْتِدَاعُهُ الْمَسِيحَ وَإِنْشَاؤُهُ، إِذْ أَرَادَ خَلْقَهُ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ‏.‏